بين قواعد الفقه وواقع المجتمع..
دعوة لصياغة جديدة لمحددات العلاقة بين الجنسين
صفية الجفري
الحاجة إلى الجنس الآخر واقع إنساني.. هذه مسلّمة بشرية، لكن يبقى السؤال هو: كيف يمكن التعامل مع هذا الواقع بطريقة تتناغم مع دواخلنا ولا تربك استقرارنا النفسي الذي قد شكلته روافد ثقافة مجتمعنا وتربيتنا، وليس الفكر وحده قادرًا على إعادة صياغته؟؟
من السهل التحدث عن القيم الدينية والفضائل المجتمعية المتعارف عليها، في ضبط التواصل بين الجنسين، لكن هل هذا التجاهل يحمل ذات القيم التي نأمل أنه يحرس سياجها؟.
وقد يُقعِّد آخرون لثقافة جديدة في التواصل بين الجنسين بصورة أكثر انفتاحًا، في طرح آراء تفتقر للموازنة القيمية، وكذا الحديث عن الزواج السري بأشكاله المختلفة ولو متعة، كما يذهب الشيعة كحل إنساني واقعي في مجتمع غابت فيه القنوات الميسرة لزيجات علنية.
وجهتا نظر
لدينا هنا توجهان، أحدهما يؤكد على السياقات الثابتة لثقافتنا الإسلامية والعربية في التعامل بين الجنسين.. وهو لا يرى أن المتغيرات الجديدة في عصرنا الحالي كثورة الاتصالات، والتراكمات التي ورثها عصرنا في العلاقات المجتمعية ، بما تحمله من اختلالات عبر ضعف شبكات التكافل الأسري، وتعسر الزواج، وتعثر التمسك بالقيم الأصيلة في تشكيل العلاقة المتزنة بين الجنسين.
لا يرى هذا التوجه أن هذه المتغيرات تبرِّر الضعف عن التمسك بالسياقات المتعارف عليها، ويخشى أن أي طروحات جديدة قد تميع الدين، وتشرعن الحيدة عن القيم الفاضلة.
والتوجه الآخر يرى أن النظر في المتغيرات الجديدة يؤكد على وجوب تفعيل ثابت مهم من ثوابت الشريعة، وهو رفع الحرج، وأن إهمال ذلك يؤدي إلى تنحية الدين عن واقع الناس، وحاجاتهم، ومن ثَم فلا بد من تشجيع قنوات التواصل المفتوحة بين الجنسين في إطار مجتمعي؛ لئلا يلجأ الشباب خاصة إلى القنوات السرية عبر الإنترنت مثلاً، ولا بد من اغتنام مساحات السعة في الفقه الإسلامي بمذاهبه الثمانية؛ ليكون في سعة الحلال غنى عن الحرام.
لكن هذا التوجه ينقصه النضج الفقهي والقيمي، وحراسة القيم جزء من الفقه، لكني ذكرت ذلك استقلالاً لأهميته.
نحو الضبط القيمي
هذا التوجه تصدى له بعض المفكرين، وغاب عنه أهل التحقيق من العلماء، وإليهم أتوجه بسطوري هذه..
كيف نوائم بين القواعد الكلية في الشريعة كنسق متكامل وبين حاجات الناس، وتغيرات واقعهم؟ وأين موضع العزيمة؟ وأين موضع الترخص؟ وهل للطروحات الفقهية أن تهمل الفضائل المندوبة باعتبار عدم وجوبها؟ وألا يخشى من أن يقود ذلك إلى اضمحلالها من حس المجتمع وواقعه؟ وهل الحفاظ عليها داخل في الواجبات الكفائية، بحيث أن تأخيرها باعتبار دنوّ مرتبتها عن الواجبات يجب ألا يؤدي إلى خلو المجتمع منها؟ وهل من قواعد منظمة لفتوى المفتين، وطروحات أهل الفقه في هذا الباب؛ لتكون منضبطة بضوابط الشرع أصالة وامتدادًا، دارسة للعرف، مميزة للصالح منه، وذلك الذي بات لا يتسق مع حاجات الناس، ويضاد مقاصد الشرع؟! والتعميم هنا فقهًا لا يغني، بل لا بد من تفصيل الحوادث، وكيف يضبط الناس أنفسهم في التعامل معها وجوبًا وندبًا، وقد يصبح المندوب واجبًا باعتبار المآلات.
وكذلك يجب أن يعاد للطرح القيمي مكانه البارز في حس الأمة، بحيث يرتكز على عمق فقهي، وضبط منهجي، لا يجعله سطحيًّا، بل موازنًا باتزان الفقه الحق.
وهذه القضية تحتاج إلى عمق نظر، ومعرفة بالواقع، وتمسك بثوابت الدين، وفقه أصيل فيه، وليس عالم واحد يكفي هذا الباب، بل ينبغي أن يحشد لذلك ثلة من العلماء المحققين، يتباحثون مع المتخصصين في العلوم الاجتماعية والنفسية، بل والدعاة القريبين من الشباب، ثم تكون الكلمة الفصل لأهل التحقيق من العلماء بعد النظر والمداولة..
ودعوتي هنا للمفكرين والفقهاء المسلمين، وأيضًا لمراكز الأبحاث والدراسات، وبشكل خاص المركز العالمي للوسطية لتبني ذلك.. والله الهادي إلى سواء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------