الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد،
عداء النصارى للختان عداء قديم، وهو يمثل أحد مظاهر الضلال والتخبط في دين النصارى الذين أرادوا أن يخالفوا اليهود في هديهم الظاهر نكاية فيهم؛ لأنهم كفروا بعيسي -عليه السلام-، رغم علم النصارى أن الختان من سنن إبراهيم -عليه السلام- ومن سنن أنبياء بني إسرائيل من بعده، وأنه ليس أمراً قد اخترعه اليهود من عند أنفسهم وفي كتابهم إلى يومنا هذا القول المنسوب إلى عيسي -عليه السلام-: "ما جئت لأنقض الناموس ولكن لأتممه"، ومع هذا كله عادى النصارى الختان للذكور والإناث حتى صارت القلفة شعارهم، فجمعوا بين نجاسة الباطن بالشرك وبين نجاسة الظاهر من اجتماع البول تحت قلفاتهم. وظل النصارى على حالهم من ترك الختان حتى دلت أبحاثهم الطبية على مسئولية ترك ختان الذكور عن أمراض كثيرة منها سرطان الجهاز البولي، بل ووجدوا أن الأقلف يسبب كثيراً من الأمراض لزوجته كسرطان الرحم، ومن ثم بدأ الغرب على استحياء يتراجع عن معاداة ختان الذكور، ثم بدأ يشجع على ختان الذكور، وذهبت تعاليم الكنيسة أدراج الرياح، وذهب دفاعهم المستميت عن هذه القلفة وعن فوائدها إلى طي الكتمان، وفي محاولة منهم للتعتيم على هذه الحقيقة العلمية الجديدة التي تأتي موافقة لدين الإسلام دين الفطرة، عاد الغرب ليهاجم ختان الإناث في الإسلام، وساعدهم على هذا أن الأضرار الطبية الناجمة عن ترك ختان الإناث أقل من الأضرار الطبية الناجمة عن ترك ختان الذكور، لاسيما وأن كثيراً من الإناث يولدن ولسن في حاجة إلى ختان، إذا ما استصحبنا الصفة الطبية والشرعية لختان الإناث المبينة في قوله -صلى الله عليه وسلم- لخاتنة في المدينة: (اخفضي ولا تنهكي).
ومما زاد من شراستهم في هذه المعركة وجود قناعة لدى معظم المسلمين أن من أهم فوائد ختان الأنثى العمل على اعتدال شهوتها، مما دفع بعض المسلمين جهلاً منهم بالسنة النبوية في ختان الإناث إلى العمل بالختان الجائر الذي يقضي على شهوة المرأة بدلاً من أن يهذبها، وحيث أن الغرب يحب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا على الأقل من باب ودت الزانية لو زنت النساء جميعاً، فإنهم لا يمكنهم السكوت على القضاء على شهوة المرأة بالختان الجائر (وهو ما لا يرضينا بلا شك بل هو من المثلة المحرمة شرعاً)، ولكنهم لا يريدون حتى ضبط هذه الشهوة، وهم على استعداد أن يتحملوا الأضرار الناشئة عن ترك ختان الأنثى طالما مازال من الممكن علاجها أو تلافيها، حتى لا يساعدوا على ضبط واعتدال الشهوة عند النساء، ومن قبل ذلك حتى يكونوا أوفياء قدر الإمكان لشعار خبيث قديم عندهم ألا وهو ترك الختان، ولكنهم عندما يروجون لهذه الفكرة الخبيثة لا يعلنون دوافعهم الحقيقية، وإنما يتمسحون في حقوق الإنسان صنم العجوة الجديد للنظام العالمي الجديد الذي يذوب ألماً وحسرة على قطعة من الجلد تقطع من الفتاة الصغيرة لكي تهيئ لها حياة صحية ونفسية أفضل فيما بعد إن شاء الله، بينما لا يتحرك لهم ساكن لأطفال محاصرين في غزة لا يصل إليهم العيش والدواء، ولا لقذائف ضالة في العراق تهدم ملاجئ الأطفال، ولا لغارات إسرائيلية
على أمهات ثكالى يهربن بأطفالهن من جحيم الحرب في لبنان. فقط تلك القطعة من الجلد التي تشغل أذهان الأشاوس في النظام العالمي الجديد، مع أن مسألة حق الفتاة في التصرف في جسدها لو عُمِّم فسيؤدي إلى القبول بمنع ختان الذكور أيضاً، والغرب في مسألة حقوق الإنسان هذه كشأنه في عامة المسائل لا يرى إلا نفسه أو بالأحرى لا يعترف إلا بجهوده، وإن كانت مسلوبة أو مقتبسه على الأقل من الآخرين، والواقع أن معظم المبادئ الغربية التي فيها شيء من الحق كان أصلها مقتبساً من معاشرة النصارى للمسلمين في الأندلس وفي تركيا وغيرها، ثم طغت عليها العقلية الأوروبية المتطرفة بطبعها في كل الميادين فحرفتها عن وسطية الإسلام وعدله، ومن ذلك حقوق الإنسان التي لم يعرفها الغرب من حيث المبدأ إلا من المسلمين، وإذا كان الغرب يتباهى بأنه تجاوز مرحلة الكلام على حقوق الإنسان بصفة عامة إلى الكلام عن حق الفئات المستضعفة من بني الإنسان كالمرأة والطفل، فإن الحديث النبوي قبل ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان يقول فيه -صلى الله عليه وسلم-: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم)، ولذلك فلا يظنن أحدٌ أن حقوق الإنسان بصفة عامة وحقوق الطفل بصفة خاصة هو اختراع غربي، بل هو من صلب الشريعة الإسلامية، الفرق الجوهري هو ما ذكرناه آنفاً أن الغرب متطرف بطبعه، بينما دين الله حق كله، وسط كله، عدل كله.
ولذلك جاء الشرع بولاية الكبير على الصغير، وهي ولاية لابد منها، وحتى الدول الأوروبية الأكثر تطرفاً في هذا الباب، والتي تصل إلى درجة تنزع فيها ولاية الآباء على الأبناء فإنها تضطر إلى استبدالها بسلطة المجتمع متمثلاً في المدرسة، بل وفي دور رعاية الأيتام والأحداث والجانحين عن أسرهم.
جاء الشرع بولاية الكبير على الصغير ولاية يسأل عنها أمام الله -عز وجل- والولي عليه أن يطبق ما يأمره به الشرع في حق صغيره، ويجتهد في تقدير المصلحة فيما يحتاج إلي تقدير، وقد توسع علماؤنا -رحمهم الله- في ذكر ذلك في كتبهم حتى كتب العلامة ابن القيم في حق الطفل المولود خاصة كتابٌ قيمٌ نافعٌ لا نظن أن الغرب يعرف له نظير له إلى يومنا هذا، وهو كتاب " تحفة الودود في أحكام المولود ".
وقد ذكر العلماء من ذلك وجوب أو استحباب أن يقوم الولي بختان صغيره أو صغيرته (بناء على وجوب الختان ذاته أو استحبابه على خلاف بين العلماء في ذلك، وجمهورهم على وجوبه في حق الذكر واستحبابه في حق الأنثى ).
وذلك لأن تأخير الختان إلى أن يبلغ الطفل فيه ضرر ديني بتعرضه إلى كشف عورته بعد البلوغ، وضرر طبي حيث يشتد ألم الجرح ويتأخر برؤه، ثم خرج العلماء من ذلك إلى بحث مسألة ثقب الأذن حتى تكون مؤهله للبس الحلق، فذهب جمهورهم إلى أنه مما يخاطب به الولي كذلك ثقب أذن ابنته الصغيرة، وعلى الرغم من أن تأخير ثقب الأذن لن يترتب عليه متى فعل حال الكبر الضرر الشرعي المتمثل في كشف العورة، وإنما سيترتب عليه ألم يسير من جراء تأخر برء الجرح، إلا أن الفقهاء رأوا أن من مسئوليات ولى الأمر أن يجنب ابنته هذا الظلم طالما كان ذلك ممكناً.
وأما الفريق الآخر من علمائنا فقد نظروا إلى أنه لا يلزم لكل أنثى أن تلبس حلقاً، ومن ثم فإذا قام الولي بثقب أذن الصغيرة، ثم لم يرق لها ارتداء الحلق حال الكبر، فيكون قد اعتدى على جسدها بلا مصلحة، فرأوا أن يؤخر ثقب الأذن إلى أن تكبر هي وتجد في نفسها الحاجة إلى لبسه.
فأجابهم الفريق الأول -والحق معهم إن شاء الله- أن الأحكام تجري على الغالب، والغالب في حق النساء حاجتهن إلى الحلي ومنها الحلق، ومن ثم فثقب الولي لأذن الصغيرة داخل في حدود قيامه على مصالحها الحالية والمستقبلية، ومن ثم ففعله ذلك يكون محموداً بإذن الله وإن لم يرق إلى الوجوب كما هو ظاهر.
ولعل هذه الإطلالة السريعة على هذه المساجلة الفقهية بين علماءنا في شأن ثقب أذن الصغيرة يدلك على مدى تعظيم الفقهاء السابقين لحدود الله، ومنها حق الطفل الصغير، وأنهم لم يقولوا بمشروعية الختان لاتصافهم بعقلية وحشية بربرية كما يدعي مدعوا الحضارة في زماننا، بل لأنهم علموا أن شرع الله مصلحة كله، ومن ثم فيخاطب الولي بتحصيل هذه المصلحة لصغاره، ولما تفاوتت أنظارهم في مقدار المصلحة في ثقب الأذن اختلفوا على النحو الذي رأيناه.
والعجب أن ثقب الأذن مع أنه من الكماليات، ومع أنه يرد أن تحدث فيه أخطاء ومضاعفات كالتي يمكن أن تحدث في الختان أو في أي جراحة خاطئة، إلا أن حفيظة الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان، ومن ورائهم شيوخ الضلالة ودعاة الفتنة لم تثر ضده هذا لأن الغرب يعيش بجزئه الأسفل ولجزئه الأسفل، وكلما ارتفع الأمر عن الأسفل كلما كان متأخراً في سلم اهتماماتهم، فالأولى بهم أن يعلنوا أنهم دعاة "حق الإنسان في أن يعيش حياة الحيوان "، وليتركوا دعاة الإسلام ليقرروا حق الإنسان وواجبه في آن واحد أن يعيش في أحسن تقويم كما شرع الله له بطهارة الباطن بالتوحيد والظاهر بالعبادة ومكارم الأخلاق وسنن الفطرة، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.