بعد أن قضينا ستة أشهر في عزبة الهجانة، ورضينا بالواقع المرّ، رأوا أن الواقع لم يكن مرّا بما يكفي!
كانت الوزارة قد افتتحت ثلاثة مراكز جديدة في القاهرة الجديدة، واحد في التجمع الأول وواحد في التجمع الثالث وواحد في التجمع الخامس. وحيث إننا كنا ستة من الصيادلة، ثلاثة من الذكور وثلاث من الإناث، فقد نقلوا ثلاثة الذكور كل واحد إلى مركز من هذه المراكز الجديدة التي تقع في أطراف الصحراء (في ذلك الوقت كانت القاهرة الجديدة مكانا مهجورا تماما لا يسمع عنه أحد)، وكان نصيبي أن أنتقل إلى التجمع الخامس.
كان شيئا بالغ الصعوبة أن أنفذ قرار النقل هذا، فقد كنت أعاني الأمرين كي أصل إلى عزبة الهجانة، وأركب ثلاث مواصلات ومع ذلك أصل متأخرا بصفة يومية، فما بالك إذا انتقلت إلى مكان أبعد. ثم إن هناك زملاء يسكنون في الحي العاشر وسيكون من الأقرب لهم أن ينتقلوا إلى هذه التجمعات. أبديت اعتراضي على قرار النقل فرفضوا الاستماع على أساس أن "الشباب لازم يتبهدل علشان يتودّك " على حد قولهم! وهكذا لم يتركوا لي الخيار.
في ذلك اليوم ذهبت إلى عزبة الهجانة وأخليت طرفي من هناك وفقا لقرار النقل، وأخذت الخطاب الموجّه إلى المنطقة الطبية والذي من المفروض أن أحصل بموجبه على خطاب موجّه إلى التجمع الخامس كي أتسلم العمل هناك. أخذت خطاب إخلاء الطرف هذا وعدت إلى المنزل! صرت الآن غير مقيد على قوة العمل بالهجانة وغير مقيد في التجمع الخامس ولا يعرف لي أحد طريقا!
ظللت ممتنعا عن العمل طيلة شهرين! لكنني كنت أذهب لأقبض راتبي مع ذلك لأن قبض الراتب يتم من مخزن الأدوية في الحي السابع وليس من المركز الذي أعمل فيه! وهذا من روائع البيروقراطية الحكومية المعقدة، والتي من فرط تعقيدها لم تستطع أن تعرف أنني ممتنع عن العمل لتمنع عني الراتب! صحيح أنني فيما بعد دفعت جزاءات تساوي أضعاف قيمة الراتب الذي كنت أقبضه، إلا أنني مازلت سعيدا لأنني استطعت أن أخدع البيروقراطية الحكومية!
وفي المركز الذي كان من المفروض أن أعمل فيه اضطروا إلى الاستعانة بطبيبة بشرية لتقوم بأعمال الصيدلية، لكنها دمرت نظام الدفاتر المعقد وأفسدت الأوراق -وهو الشيء الوحيد الذي يهم التفتيش- وبالتالي اضطروا إلى إقصائها عن الصيدلية!
صارت الصيدلية الآن بدون صيدلي، والمركز في أزمة لأن تعليمات الوزارة تقضي بتشغيل المراكز الجديدة لتشجيع الناس على السكن في القاهرة الجديدة.
أخذت مديرة المركز الجديد تبحث عن الصيدلي الهارب حتى حصلت على رقم هاتفي واتصلت بي في المنزل وفاوضتني على الرجوع مقابل التغاضي عن غياب بعض الأيام، وجدتها صفقة عادلة فعدت!
وهكذا رجعت إلى الدوامة، ذهبت إلى المنطقة الطبية وحُوّلت إلى الشئون القانونية، وبعد التحقيق والجزاءات المعتادة استلمت الخطاب الموجّه إلى المركز الجديد ورجعت إلى العمل.
وإذا كنت أركب ثلاث مواصلات إلى الهجانة أصبحت أركب أربع مواصلات هذه المرة! وإذا فاتني الأوتوبيس الذي يرسله جهاز المدينة إلى الزهراء خصيصا لموظفي المركز، اضطررت إلى ركوب مواصلة أخرى تنزلني على أطراف التجمع، وأضطر بعدها إلى المشي نصف ساعة في الصحراء القاحلة حتى أصل إلى المركز