صيام الكائنات
صيام ديدان الحرير
يقدم لنا عالم الحشرات أنماطًا من الصيام تدل على قدرة الله غي الخلق والإيجاد، وإنه إذا كان المعلوم المشاهَد في دنيا الناس أن تناول الطعام أحد أسباب نمو الكائن الحي وتطوره، فإن ديدان الحرير تدلنا على أن الصوم التام، والامتناع عن تناول الطعام والشراب لا يُلحق بالجسم الضعف والوهن، وإنما يعيد صياغة هذه المخلوقات بطريقة جميلة وأخَّاذة بالألباب، وحتى نقف على أسرار هذا الصيام فلا بد لنا من معرفة سريعة بدورة حياة هذه المخلوقات، والتي نستطيع بيانها على النحو التالي:
- في أوائل فصل الربيع يفقس البيض عن يرقات صغيرة نهمة، لا تلبث أن تتغذى على أوراق أشجار التوت لمدة خمسة أيام، فيمتلئ جسمها ويكبر إلى درجة يضيق عنها جلدها؛ فيصبح من المحتم عليها أن تنزع عنها هذا اللباس لتستبدل به لباسًا آخر رحبًا فسيحًا، فلا تجد أمامها إلا الصيام لمدة يوم أو يومين، ريثما يتهيأ جسمها فسيولوجيًّا لنبذ هذا الإهاب. وتتكرر في هذه العملية خلال الطور اليرقي هذا خمس مرات في مدة تبلغ نحو ثلاثين يومًا، وفي نهايتها تبلغ تمام نموِّها، وتصل إلى حجم ملحوظ.
>حينما تبلغ اليرقة هذا الحجم، فإن عليها أن تدخل نوعًا آخر من الصيام يصل نحو ستة أيام، فتلجأ إلى مكان هادئ لكي تُعِدّ لنفسها خدرًا تأوي إليه، ولَكَمْ تستولي علينا الدهشة، ويستبد بنا العجب إذا ما علمنا أنها تنسج خيطًا حريريًّا وحيدًا يصل طوله من 400 إلى 1200 متر!! وتظل تحرك رأسها حتى يتكوَّن هذا الخدر والذي يُعرف باسم "الشرنقة"، وهو من حرير القز، الذي تتوق النفس لارتداء ثوب منه، لولا أن الله قد حرَّمه على الرجال وأباحه للنساء فهو مناسب لطبيعتهن، وحينئذ يُقال إن الدودة قد عذرت - أي دخلت طور العذراء - وهو طور ساكن يحتاج إلى الهدوء التام؛ لأنه في حقيقته الأمر ليس مرحلة من مراحل النمو، أو حالة من حالات السبات، وإن كان يبدو كذلك، وإنما هو يمثل مرحلة هامة في حياة هذه الحشرة؛ حيث تتعرض لكثير من التحولات السريعة والمتلاحقة، والتي يتم على إثرها إعادة صياغتها وتحولها إلى مرحلة أخرى. وفي نهاية هذا الطور وتلك المرحلة، فإن الدودة الساكنة الصائمة تتحول إلى مارد عملاق، عليه أن يحطِّم القيود والأغلال ليخرج إلى الحياة الرَّحبة الفسيحة، فيفرز سائلاً كاويًا يذيب جزءاً من هذه الشرنقة، فيُزاح الستار عن كائن جميل هو فراشة ديدان الحرير، التي تضع بيضها بعد الإخصاب، وتقضي بقية عمرها التي تصل نحو خمسة أيام صائمة؛ لتودع الدنيا كما أتت إليها خاوية الوفاض، وتُنزل بيضها المُخصَّب حتى الربيع القادم ليعاود الكَرَّة من جديد؛ فسبحان الله المبدئ المعيد!!.